د.يوسف بن أحمد القاسم
منذ قرون طويلة والتشريع الإلهي يحض على التطوع؛ ليكون نموذجا من نماذج الشخصية المسلمة, وجزءا أساسيا من هويتها, فقد أخبرنا النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ عن قصة رجل تطوع لإنقاذ كلب, كان على حافة الموت, بسبب العطش, لولا شهامة رجل تطوع لإنقاذه, فقال عليه الصلاة والسلام: (بينما رجلٌ يمشي بطريق, اشتد عليه العطش, فوجد بئراً, فنزل فيها, فشرب, ثم خرج, فإذا كلبٌ يلهث, يأكل الثرى من العطش, فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني, فنزل البئر, فملأ خفه ماءً, ثم أمسكه بفيه حتى رقى, فسقى الكلب, فشكر الله له, فغفر له. قالوا: يا رسول الله, وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبدٍ رطبة أجرٌ) متفق عليه. وإذا كان هذا جزاء من أنقذ كلبا, فما جزاء من أنقذ آدميا مشرفا على الموت؟! وفي رواية أخرى أن المنقذ امرأة بغي, فكان لرأفتها ورحمتها بمشهد الكلب أثر مباشر في مغفرة ذنبها, ففي الصحيحين: (بينما كلب يطيف بركية, قد كاد يقتله العطش, إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل, فنزعت موقها, فاستقت له به, فسقته إياه, فغفر لها به)، وهكذا أصبح الكلبان سببا لمغفرة ذنبيهما. إذن, فمن قصر في إنقاذ آدمي, حتى أهلكه العطش, أو قصر في إنقاذ غريق حتى غمره ماء السيل أو البحر, فما جزاؤه عند الله تعالى؟ وماذا عن التطوع لإنقاذ غريق؟
وماذا عن التطوع بإنقاذ شخص وقع في حريق؟ ليسعفه من نار الدنيا, لا من نار الآخرة (أفمن حقت عليه كلمة العذاب, أفأنت تنقذ من في النار)؟!
ماذا عن التطوع بإنقاذ امرأة من أعماق بئر ارتوازية؟ لتلتقط أنفاسها قبل فوات الأوان؟
وماذا عن التطوع لإنقاذ نفس من الهلاك؟ (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا..).
ماذا عن التطوع بإنقاذ مستضعفين من طغاة أو ظلمة يسومونهم سوء العذاب؟ (.. والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا..).
ماذا عن التطوع بإنقاذ امرأة مكلومة من زوجها الذي يمارس ضدها أشد أساليب الغلظة والقسوة؟ بإنشاء مؤسسات للسكن والمودة والرحمة, تذلل أسباب الصلح, أو تنتزع لهن حقوقهن عبر المؤسسات القضائية والتنفيذية.
ماذا عن التطوع بإنقاذ طفل يمارس ضده أقذر أدوات العنف؟ بإنشاء مؤسسات تربوية تعنى بتوجيه الآباء, وغرس معاني الحب والرحمة في قلوبهم؟ وبتأسيس جمعيات تعنى بالطفل, ورعايته, وحفظ حقوقه المنقوصة.
ماذا عن التطوع بإنقاذ متعاطي الدخان والمسكرات والمخدرات؟ وإنشاء مؤسسات صحية ونفسية تعنى بعلاجهم, وتأهيلهم لحياة صحية ونظيفة, لهم ولأسرهم.
ماذا عن التطوع بإنقاذ البلاد برمتها من أكلة المال العام, ومحاسبتهم عبر الطرق الشرعية والنظامية؟
ماذا عن التطوع بإنقاذ بلاد من جهل أو مرض أو مجاعة؟ (أو إطعام في يوم ذي مسغبة).
وماذا عن التطوع بإنقاذ يتيم من شبح الخوف بكل أشكاله؟ (أنا وكافل اليتيم كهاتين).
بل ماذا عن التطوع بإزالة الأذى عن الطريق (بينما رجلٌ يمشي بطريق, وجد غصن شوكٍ على الطريق, فأخره, فشكر الله له, فغفر له)، ولو تطوع الناس كلهم بإزاحة غصن الشوك, ورفع الأذى عن طريق المسلمين, لكانت بلاد المسلمين مضرب المثل في النظافة برفع الأذى, وفي التواضع بكسر النفس المتعالية.
ليس هذا فحسب, بله التطوع بتوجيه أفراد المجتمع نحو الخير كافة, وسلوك طريق الإصلاح.
لقد أمر الله تعالى بالبر في قوله: (ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ, وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ, وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ, وَأَقَامَ الصَّلاةَ, وَآتَى الزَّكَاةَ, وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ, وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ, أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا, وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فجمعت الآية كل أنواع البر, فلفظ ''البر'' هنا لفظ عام؛ من أجل أن يحتوي على كل أشكال البر, ومنها التطوع بفك الرقاب, وإِطْعَامُ الْجَائِعِ, وكسوة العاري... إلخ, وبعض صور التطوع تتحول إلى حالة وجوب, بحسب الحالة, وبحسب القدرة, وبحسب الأمانة الموكولة إلى المتطوع إذا كان جنديا في الدفاع المدني, أو موظفا في البلدية, أو مسؤولا, صغيرا كان أو كبيرا, كل بحسب مسؤولياته وصلاحياته الممنوحة له.
وكم يبلغ السرور مداه حين يقوم الناس جميعا بحملة تطوع؛ لردم النقص, وسدة الثغرة, من أجل إنقاذ غريق, أو صنع معروف لمكروب, أو حتى بحمل رسالة صحافية وإعلامية لتنبيه مسؤول, ومعالجة واقع, وحل مشكلة في المستقبل.
إننا بحاجة لحملة تثقيف؛ ليكون التطوع سلوكا يحظى به كل أفراد المجتمع, بدءا من الكبير وحتى الصغير, ويشارك فيها صاحب البيان بلسانه وقلمه, وصاحب العلم والفكر بعلمه وفكره, وصاحب المال بماله, وصاحب الجاه بجاهه, وصاحب الصلاحيات بصلاحياته دون تأخير أو تباطؤ.